"انعدمت شروط الحياة في ذلك المكان، يموت الأطفال في مخيّم الهول جوعا أو بردا أو قتلا، هم أبرياء وضحايا لا ذنب لهم، ملائكة لا حول لهم ولا قوة، وبقاؤهم هناك عار على الإنسانية".بهذه العبارة يبدأ مصطفى بن حمدان حديثه لمنصة "المشهد" ناقلا صورة معتمة في كل أبعادها عن الطفولة في المخيمات السورية. هو ليس شخصية مشهورة في عالم الفن أو الرياضة أو السياسة، لكنه حقّق الكثير ليصفه جيرانه وأقاربه بالبطل. باختصار هو رجل مغربي أعاد حفيديه من مخيّم الهول في شمال سوريا إلى مدينة العرائش شمال المغرب، في مبادرة هي الأولى من نوعها. تصدّر اسمه عناوين الصحف في عام 2021، حينما بعث رسالة استعطاف إلى العاهل المغربي محمد السادس للتدخل من أجل عودتهما. الطفلان اليوم برفقة جدهما، يعيشان حياة مليئة بدفء العائلة الكبيرة، أو ربما هكذا ترجمّنا سعادتهما أثناء مقابلتنا لهما داخل مؤسستهما التعليمية. هناك الجد ينتظر حفيديه حتى نهاية الفصل، يقبلّهما ويعانقهما كأنه لم يرهما منذ زمن بعيد، ثم يسألهما عن يومهما الدراسي، فيرويان له أدق التفاصيل إلى أن يصلا إلى البيت. سألتهما عن جدهما، فعلت الفرحة ملامحهما وهما يرمقاني باستغراب وكأن لسان حالهما يخاطبني: "ألا تعرفي جدنا؟ هو كل شيء بالنسبة لنا"، هذا ما أكده لنا الحاج مصطفى حين قال لمنصة "المشهد": "أنا الأب والجد.. أنا كل شيء لفاطمة وعثمان". بعد أكثر من سنة على رجوع الطفلين، نعود لنسأل الحاج مصطفى عن حالهما، هل يعيشان طفولة طبيعية؟ وكيف ينظر المجتمع إليهما؟ بداية الحكاية مصطفى بن حمدان الذي واجه العالم ليستعيد حفيديه، تحدث عن نجله قائلا: "ابني عمر من مواليد 1985، كان يعيش حياة طبيعية برفقة زوجته وابنه، لكن غُرر به من طرف جماعات متطرفة عملت على غسل دماغه، اعتقدَ أنه ذاهب لتقديم يد المساعدة في سوريا نصرة للمظلومين، فوجد نفسه أسيرا لقوات سوريا الديموقراطية منذ عام 2019". لم يكن عمر متديّنا، لم يكن يصلي حتى يسأله الحاج مصطفى عن أداء الفريضة. ويضيف الأب قائلاً: "لكنه كان شابا طيبا يأوي اليتامى والأرامل ويساعد المحتاجين، لذا كانت مشاهد قصف الأطفال والدمار في سوريا تحُز في نفسه، فقرر السفر إلى بريطانيا عام 2014، اصطحب معه زوجته الأولى وابنه، لتبدأ رحلته في اتجاه واحد من دون رجعة". لم تمر بضعة أشهر في لندن حتى أعاد عمر عائلته الصغيرة إلى المغرب، ليستطيع دخول سوريا من دون معارضتهما. كباقي مقاتلي "داعش" اختار السفر إلى تركيا ومن ثم الانتقال إلى الرقة شمال سوريا. اصطدم والد فاطمة وعثمان بحقيقة التنظيم الإرهابي وبظروف الحياة في الرقة، لكن بعد فوات الآوان، "ندم على قراره وحاول الهروب مرارا من دون جدوى"، يقول الحاج مصطفى. وأردف قائلاً: "انقطع الاتصال مع ابني منذ عام 2019، هو نادم على ما فعل، الله يفك أسره ويعيده إلينا سالما ما دمنا على قيد الحياة". تزوج عمر من سورية، وأنجب منها 3 أطفال، أسماء وفاطمة وعثمان. أسماء فارقت الحياة متأثرة بقسوة الطقس وسوء التغذية، فيما ظلت فاطمة (4 أعوام) وعثمان (6 أعوام) يكابدان مشقة الحياة إلى أن هربا مع والدتهما إلى تركيا عام 2019. طريق طويل كانت الأم على اتصال دائم مع الجد الذي قرر السفر برفقة زوجته إلى إسطنبول لتوفير مسكن ولقمة عيش لحفيديه. كان الحاج مصطفى يزورهم كل شهرين إلى أن اشتدت أزمة كورونا وأغلقت الحدود فارتأى اصطحاب الطفلين للعيش معه في المغرب. وقال: "هما فلذة كبدي لا يمكنني تركهما في إسطنبول مهما كلّفني الأمر، لقد كانت طريق العودة طويلة وشاقة، الكثير من الوثائق والإجراءات التي كادت لا تنتهي، مللت الانتظار فلجأت للملك محمد السادس وبعثت رسالة استعطاف ليعيش الطفلان معي بعد أن تنازلت أمهما عن الحضانة". لم يتأخر الجواب على الحاج المصطفى عقب مراسلته للعاهل المغربي، تحقّق حلمه واجتمع مع حفيديه. بعد مرور عام على العودة، يقول الجد لمنصة "المشهد": "عثمان وفاطمة صارا مثل المغاربة، اندمجا وانسجما مع أقرانهما في المدرسة، في البداية كانت لهجتهما سورية لكن بسرعة استطاعا تعلم العامية المغربية". لم يلجأ الحاج مصطفى إلى طلب دعم نفسي للطفلين لأنهما ليسا في حاجة إليه، على حد تعبيره. أنقذوا الأطفال! الاستشارية النفسية والأسرية الدكتورة ريما بجاني تؤيد "عودة الأطفال إلى أوطانهم وإنقاذهم من ظلام المخيّمات، لينعموا بحياة طبيعية يتوفر فيها السكن اللائق، التعليم، الغذاء، التطبيب، والأمن"، معتبرة أن "الصحة الجسدية للطفل تؤثر على صحته النفسية، ومن ثم على نمط تفكيره". وبرّرت بجاني موقفها قائلة: "الطفل مثل العجين يمكن تشكيله وأن نجعل منه طفلا صالحا أو طالحا، ولا يمكن للطفل إلا أن يكون غير سوي إذا نشأ وكبر في وسط متطرف". لم يشرح الجد مصطفى لحفيديه وضع أبيهما وكيف ذهب إلى سوريا ولماذا. بالنسبة له هذه الأسئلة لم تُطرح بعد، ولا حاجة لإخبارهما في هذه السن لأنهما لن يفهما جيدا. هنا تنصحه الخبيرة النفسية بإخبارهما قبل أن يسألا عن الأمر أو يسمعا عنه من أطراف أخرى قد لا تراعي نفسية الطفلين وظروفهما. وعن استمرار تواصل الأطفال مع أهلهم بعد العودة، فترى بجاني أن "الأمر يتعلق بشخصية الأب والأم، إذا كانا يحملان أفكارا متطرفة، فيجب منع التأثير الذي يمكن أن يحدثه التواصل معهما، أما إذا كانا غير ذلك فيجب أن يستمر التواصل معهما حتى لا يشعر الطفل أنه منبوذ وغير مرغوب فيه ومتخلى عنه". نظرة المجتمع لأطفال "داعش" هنا تُطرح إشكالية قانونية في كثير من البلدان التي تريد إعادة الأطفال من دون أمهاتهم اللواتي تناصرنّ الإرهاب، واللواتي عليهن الموافقة على سفر أبنائهن من دونهن، كما ينص على ذلك القانون، وهذا ما لا يحدث غالبا. إضافة إلى هذه الإشكالية القانونية، تطفو إلى السطح إشكالية اجتماعية، وهي نظرة المجتمع إلى هؤلاء الأطفال.يُطلق عليهم عامة الناس والإعلام أحيانا "أبناء الجهاديين"، أو "أبناء الدواعش"، أو "أشبال الخلافة"، ووراء هذه المصطلحات قد تتخفى وصمة عار تلاحق هؤلاء الأطفال مدى الحياة. الخبير في علم النفس الاجتماعي الدكتور محسن بن زاكور، قال إن "المغاربة تحديدا تجاوزوا الفكر القبلي، وأصبحوا أكثر انفتاحا، ولن يكون هناك تشبث مطلق بصور نمطية تجاه الأطفال العائدين من المخيّمات". ويضيف الخبير الاجتماعي المغربي في تصريح لمنصة "المشهد": "يمكن لأي طفل أن يواجه نظرة قاسية من المجتمع أو أن يتعرض للتحرش المدرسي من ضرب وإهانة واحتقار، سواء كان الأب إرهابيا أم لا". ويتابع: "لن نقبل أن يدفع الأطفال ثمن أخطاء أهلهم، إذا احتضنتهم أوطانهم، فهذا هو المطلوب، لأن نسبة احتمال التطرف في المخيّمات ألف في المئة أما في الوطن فالاحتمال يتضاءل، وإذا كنا نتحدث عن المغرب، فقد شهد أحداثا إرهابية جعلته يعي خطورة هذه الظاهرة". ويشير بن زاكور إلى التجربة المغربية في محاربة الإرهاب والتطرف، التي تتضمن برامج داخل السجون، لاجتثاث الفكر المتطرف وبناء الإنسان من جديد، إضافة إلى إقحام المجتمع المدني في القرى التي كانت لوقت قريب مهمشة، والتهميش بحسبه، يولد التطرف. ونفى وجود "حركة داعشية منظمة" في المغرب. في المقابل أكد انتشار نوع من التطرف الفكري بشكل طفيف، يبدأ من المراهقة "لكن لا علاقة له بالطفولة"، على حد قوله. أحلام الطفولة الطفولة إذا بريئة وصافية من شوائب التطرف، لكن وعي الأطفال قد يلّوَث بذكريات أيام طغى فيها الإرهاب، إذا لم يجدوا وسطا صحيا يحتويهم ويحتضن أحلامهم. وفي ختام لقاء "المشهد" مع الحاج مصطفى، سألنا عثمان وفاطمة عن أحلامهما. عثمان ردّ بخجل قائلا: "أحب كرة القدم، وأحلم أن أكون لاعب كرة قدم"، فيما فضّلت فاطمة أن تقاسم حلم أخيها بنظرات حب، وبضحكة تُنسي الجد هموم الحياة. أكد الحاج مصطفى أن "الطفلين يعيشان حياة كريمة، وأنه يسعى دائما لتوفير كل ما يجعلهما سعيدين، مثل جميع أحفادي أحبهما كثيرا، لكني أحنّ عليهما أكثر لأن ليس لديهما أب، فخور بهما والله يجعلهم من الصالحين". في وقت نجحت فاطمة وعثمان في العودة إلى وطنهما والاندماج في مجتمعها، تحذّر منظمة "أنقذوا الأطفال" من بقاء أكثر من 25 ألفا من أطفال مقاتلي "داعش" لعقود في مخيّمات مكتظة بعشرات الآلاف في ظروف كارثية. فهل تمنح الأوطان فرصة للأطفال ببدء حياة كريمة، وإطلاق سراح أحلامهم المحتجزة في المخيّمات؟ الثلاثاء، أعادت فرنسا 15 امرأة و32 طفلا كانوا معتقلين في مخيّمات يُحتجز فيها مقاتلو "داعش" في شمال شرق سوريا، حسبما أعلنت وزارة الخارجية الفرنسية. وأفادت الوزارة في بيان: "سُلّم القاصرون إلى الأجهزة المكلّفة بمساعدة الأطفال وستقدّم لهم متابعة طبية اجتماعية"، مضيفة أن "البالغات سُلّمن إلى السلطات القضائية المختصة". والجمعة، وافقت كندا على إعادة 6 نساء كنديات، و13 طفلا، محتجزين في شمال شرق سوريا منذ سنوات، في أكبر عملية إعادة لعائلات مقاتلي تنظيم "داعش" البلاد على الإطلاق. وكشفت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في كندا أن "عددا من النساء والأطفال تلقوا رسائل من الحكومة تشير إلى أنهم يستوفون شروط العودة إلى الوطن"، ما يشير إلى أننا قد نشهد المزيد من عمليات الإعادة.(المغرب - المشهد)